فصل: تفسير الآية رقم (34)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الر كِتَابٌ‏}‏ مبتدأ وخبر أو ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ‏{‏أُحكِمَتْ آيَاتُهُ‏}‏ نظمت نظماً محكماً لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكمية منقول من حكم بالضم إذا صار حكيماً لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية‏.‏ ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار، أو بجعلها سوراً أو بالانزال نجماً نجماً، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه‏.‏ وقرئ ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ على البناء للمتكلم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار‏.‏ ‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ صفة أخرى ل ‏{‏كِتَابٌ‏}‏، أو خبر بعد خبر أو صلة ل ‏{‏أُحْكِمَتْ‏}‏ أو ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ لأن لا تعبدوا‏.‏ وقيل أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول، ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ للاغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة الغير كأنه قيل‏:‏ ترك عبادة غير الله بمعنى الزموه أو اتركوها تركاً‏.‏ ‏{‏إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ‏}‏ من الله‏.‏ ‏{‏نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏}‏ بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد‏.‏ ‏{‏وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ عطف على ألا تعبدوا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من الرجوع‏.‏ وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة، ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين‏.‏ ‏{‏يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا‏}‏ يعيشكم في أمن ودعة‏.‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو آخر أعماركم المقدرة، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإِضافة إلى كل أحد فلا تتغير‏.‏ ‏{‏وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة، وهو وعد للموحد التائب بخير الدارين‏.‏ ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ وإن تتولوا‏.‏ ‏{‏فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ يوم القيامة، وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف‏.‏ وقرئ ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ من ولي‏.‏

‏{‏إلى الله مَرْجِعُكُمْ‏}‏ رجوعكم في ذلك اليوم وهو شاذ عن القياس‏.‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على تعذيبكم أشد عذاب وكأنه تقدير لكبر اليوم‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ يثنونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يولون ظهورهم‏.‏ وقرئ «يثنوني» بالياء والتاء من اثنوني، وهو بناء مبالغة و«تثنون»، وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف أراد به ضعف قلوبهم أو مطاوعة صدورهم للثني، و«تثنئن» من اثنأن كأبياض بالهمزة و«تثنوي»‏.‏ ‏{‏لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ‏}‏ من الله بسرهم فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه‏.‏ قيل إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا‏:‏ إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم‏.‏ وقيل نزلت في المنافقين وفيه نظر إذ الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة‏.‏ ‏{‏أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ‏}‏ ألا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم‏.‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ‏}‏ في قلوبهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم فكيف يخفي عليه ما عسى يظهرونه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ بالأسرار ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا‏}‏ غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه تفضلاً ورحمة، وإنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا‏}‏ أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة‏.‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ كل واحد من الدواب وأحوالها‏.‏ ‏{‏فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ مذكور في اللوح المحفوظ، وكأنه أريد بالآية بيان كونه عالماً بالمعلومات كلها وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ أي خلقهما وما فيهما كما مر بيانه في «الأعراف»، أو ما في جهتي العلو والسفل وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات‏.‏ ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء‏}‏ قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما لأنه كان موضوعاً على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم‏.‏ وقيل كان الماء على متن الريح، والله أعلم بذلك‏.‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ متعلق ب ‏{‏خُلِقَ‏}‏ أي خلق ذلك كخلق من خلق ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون، فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها، وإنما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه من معنى العلم من حيث إنه طريق إليه كالنظر والاستماع، وإنما ذكر صيغة التفضيل والاختبار شامل لفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائماً في مراتب العلم والعمل فإن المراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ‏"‏ والمعنى أيكم أكمل علماً وعملاً‏.‏ ‏{‏وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» على أن الإشارة إلى القائل‏.‏ وقرئ ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ بالفتح على تضمن قلت معنى ذكرت أو أن يكون أن بمعنى على أي ولئن قلت علَّكم مبعوثون، بمعنى توقعوا بعثكم ولا تبتوا بإنكاره لعدوه من قبيل ما لا حقيقة له مبالغة في إنكاره‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب‏}‏ الموعود‏.‏ ‏{‏إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ‏}‏ إلى جماعة من الأوقات قليلة‏.‏ ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ استهزاء‏.‏ ‏{‏مَا يَحْبِسُهُ‏}‏ ما يمنعه من الوقوع‏.‏ ‏{‏أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ‏}‏ كيوم بدر‏.‏ ‏{‏لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ‏}‏ ليس العذاب مدفوعاً عنهم، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب بخبر ‏{‏لَّيْسَ‏}‏ مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد‏.‏ ‏{‏مَّا كَانُوا بِهِ‏}‏ أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون، فوضع ‏{‏يستهزؤون‏}‏ موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ‏}‏ ثم سلبنا تلك النعمة منه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيُؤُوسٌ‏}‏ قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به‏.‏ ‏{‏كَفُورٌ‏}‏ مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ‏}‏ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى‏.‏ ‏{‏لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي‏}‏ أي المصائب التي ساءتني‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَفَرِحٌ‏}‏ بطر بالنعم مغتر بها‏.‏ ‏{‏فَخُورٌ‏}‏ على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها، وفي لفظ الاذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس مبتدأ الوصول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ على الضراء إيماناً بالله تعالى واستسلاماً لقضائه‏.‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ شكراً لآلائه سابقها ولاحقها‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم‏.‏ ‏{‏وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس فإذا كان محلى باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل الاستثناء منقطعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ها هنا‏.‏ ‏{‏وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ‏}‏ وعارض لك أحياناً ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة‏.‏ ‏{‏أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ‏}‏ ينفقه في الاستتباع كالملوك‏.‏ ‏{‏أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ‏}‏ يصدقه وقيل الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ مبهم يفسره ‏{‏أَن يَقُولُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ‏}‏ ليس عليك إلا الإِنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ‏}‏ فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة والهاء ‏{‏لِمَا يُوحَى‏}‏‏.‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ‏}‏ في البيان وحسن النظم تحداهم أولاً بعشر سور ثم لما عجزوا عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة، وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة‏.‏ ‏{‏مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم القريض والنظم‏.‏ ‏{‏وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله‏}‏ إلى المعاونة على المعارضة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنه مفترى ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ‏}‏ بإتيان ما دعوتم إليه، وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أو لأن المؤمنين كانوا أيضاً يتحدونهم، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم متناولاً لهم من حيث إنه يجب أتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصه الدليل، وللتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله‏}‏ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه‏.‏ ‏{‏وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ واعلموا أن لا إله إلا الله لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره، ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة بإعجازه عليه، وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم‏.‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً، ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين والضمير في ‏{‏لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ‏}‏ لمن استطعتم أي فإن لم يستجيبوا لكم إلى المظاهرة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعاوضة فاعلموا أنه نظم لا يعلمه إلا الله، وأنه منزل من عنده وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون في الإِسلام بعد قيام الحجة القاطعة، وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏}‏ بإحسانه وبره‏.‏ ‏{‏نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا‏}‏ نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد‏.‏ وقرئ «يوف» بالياء أي يوف الله و‏{‏نُوَفّ‏}‏ على البناء للمفعول و«نُوَفّ» بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله‏:‏

وَإِنْ أَتَاهُ كَرِيمٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالي وَلاَ حَرَمُ

‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ‏}‏ لا ينقصون شيئاً من أجورهم‏.‏ والآية في أهل الرياء‏.‏ وقيل في المنافقين‏.‏ وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 22‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار‏}‏ مطلقاً في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة‏.‏ ‏{‏وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا‏}‏ لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة، أو لم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإِخلاص، ويجوز تعليق الظرف ب ‏{‏صَنَعُواْ‏}‏ على أن الضمير ل ‏{‏الدنيا‏}‏‏.‏ ‏{‏وباطل‏}‏ في نفسه‏.‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ لأنه لم يعمل على ما ينبغي، وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها‏.‏ وقرئ «باطلاً» على أنه مفعول يعملون و‏{‏مَا‏}‏ إبهامية أو في معنى المصدر كقوله‏:‏

وَلاَ خَارِجاً منْ في زُور كَلاَم *** وبطل على الفعل ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص‏.‏ وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل‏.‏ ‏{‏شَاهِدٌ مّنْهُ‏}‏ شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن‏.‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ ومن قبل القرآن‏.‏ ‏{‏كِتَابُ موسى‏}‏ يعني التوراة فإنها أيضاً تتلوه في التصديق، أو البينة هو القرآن ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ من التلاوة والشاهد جبريل، أو لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه‏.‏ والضمير في ‏{‏يتلوه‏}‏ إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ جملة مبتدأة‏.‏ وقرئ ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ بالنصب عطفاً على الضمير في ‏{‏يتلوه‏}‏ أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق كقوله‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏ ويقرأ من قبل القرآن التوراة‏.‏ ‏{‏إِمَاماً‏}‏ كتاباً مؤتماً به في الدين‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من كان على بينة‏.‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ بالقرآن‏.‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب‏}‏ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فالنار مَوْعِدُهُ‏}‏ يردها لا محالة‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ من الموعد، أو القرآن وقرئ «مُرْيَةٍ» بالضم وهما الشك‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لقلة نظرهم واختلال فكرهم‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الكاذبون‏.‏ ‏{‏يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ‏}‏ في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الأشهاد‏}‏ من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم، وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف‏.‏ ‏{‏هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله‏.‏

‏{‏الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عن دينه‏.‏ ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون‏}‏ والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم واختصاصهم به‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض‏}‏ أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم‏.‏ ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب‏}‏ استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يُضَّعف» بالتشديد‏.‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع‏}‏ لتصامهم عن الحق وبغضهم له‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏}‏ لتعاميهم عن آيات الله، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب‏.‏ وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب‏}‏ اعتراض‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى‏.‏‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من الآلهة وشفاعتها، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة‏.‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون‏}‏ لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت وهو الأرض المطمئنة‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ دائمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ الفريقين‏}‏ الكافر والمؤمن‏.‏ ‏{‏كالأعمى والأصم والبصير والسميع‏}‏ يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن إسماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه، وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد فيكون كل واحد منهما مشبهاً باثنين باعتبار وصفين، أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما والعاطف لعطف الصفة على الصفة كقوله‏:‏

الصَّابِح فَالغَانِم فَالآيِب *** وهذا من باب اللف والطباق‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ‏}‏ هل يستوي الفريقان‏.‏ ‏{‏مَثَلاً‏}‏ أي تمثيلاً أو صفة أو حالاً‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ بضرب الأمثال والتأمل فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ‏}‏ بأني لكم‏.‏ قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالكسر على إرادة القول‏.‏ ‏{‏نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ بدل من ‏{‏إِنِّي لَكُمْ‏}‏، أو مفعول مبين، ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة ب ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ أو ب ‏{‏نَّذِيرٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏ مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جد جده ونهاره صائم للمبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا‏}‏ لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة‏.‏ ‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا‏}‏ أخساؤنا جمع أرذل فإنه بالغلبة صار مثل الاسم كالأكبر، أو أرذل جمع رذل‏.‏ ‏{‏بَادِيَ الرأي‏}‏ ظاهر الرأي من غير تعمق من البدو، أو أول الرأي من البدء، والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالهمزة وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أي‏:‏ وقت حدوث بادي الرأي، والعامل فيه ‏{‏اتبعك‏}‏‏.‏ وإنما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم والمحروم منها أرذل‏.‏ ‏{‏وَمَا نرى لَكُمْ‏}‏ لك ولمتبعيك‏.‏ ‏{‏عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ‏}‏ يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة‏.‏ ‏{‏بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين‏}‏ إياي في دعوى النبوة وإياهم في دعوى العلم بصدقك فغلب المخاطب على الغائبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ أَرَءيْتُمْ‏}‏ أخبروني‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي‏}‏ حجة شاهدة بصحة دعواي‏.‏ ‏{‏وَآتَانِي رَحمةً مِن عِندِه‏}‏ بإيتاء البينة أو النبوة‏.‏ ‏{‏فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ‏}‏ فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن خفاءها يوجب خفاء النبوة، أو على تقدير فعميت بعد البينة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏فَعُمّيَتْ‏}‏ أي أخفيت‏.‏ وقرئ «فعماها» على أن الفعل لله‏.‏ ‏{‏أَنُلْزِمُكُمُوهَا‏}‏ أنكرهكم على الاهتداء بها‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لَهَا كارهون‏}‏ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَا لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على التبليغ وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر‏.‏ ‏{‏مَالاً‏}‏ جعلا‏:‏ ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ فإنه المأمول منه‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ جواب لهم حين سألوا طردهم‏.‏ ‏{‏أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ‏}‏ فيخاصمون طاردهم عنده، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم‏.‏ ‏{‏ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ‏}‏ بلقاء ربكم أو بأقدارهم أو في التماس طردهم، أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله‏}‏ بدفع انتقامه‏.‏ ‏{‏إِن طَرَدتُّهُمْ‏}‏ وهم بتلك الصفة والمثابة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏ رزقه وأمواله حتى جحدتم فضلي‏.‏ ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏ عطف على ‏{‏عِندِي خَزَائِنُ الله‏}‏ أي‏:‏ ولا أقول لكم أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعاداً، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب، وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول‏.‏ ‏{‏وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ‏}‏ ولا أقول في شأن من استرذلتموهم لفقرهم‏.‏ ‏{‏لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا‏}‏ فإن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا‏.‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين‏}‏ إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء به افتعال من زرى عليه إذا عابه قلبت تاؤه دالاً لتجانس الراء في الجهر وإسناده إلى الأعين للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرؤية من غير روية بما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا‏}‏ خاصمتنا‏.‏ ‏{‏فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا‏}‏ فأطلته أو أتيت بأنواعه‏.‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب‏.‏ ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر فينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء‏}‏ عاجلاً أو آجلاً‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بدفع العذاب أو الهرب منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ‏}‏ شرط ودليل وجواب والجملة دليل جواب قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، ولذلك تقول لو قال الرجل أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً فدخلت ثم كلمت لم تطلق، وهو جواب لما أوهموا من جداله كلام بلا طائل‏.‏ وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإِغواء وأن خلاف مراده محال‏.‏ وقيل ‏{‏أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم فهلك‏.‏ ‏{‏هُوَ رَبُّكُمْ‏}‏ هو خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي‏}‏ وباله وقرئ «أَجْرامي»على الجمع‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ‏}‏ من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي‏.‏

‏{‏وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ فلا تحزن ولا تتأسف‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإِيذاء‏.‏

‏{‏واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ملتبساً بأعيننا، عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل‏.‏ ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏ إليك كيف تصنعها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ولا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ محكوم عليهم بالإِغراق فلا سبيل إلى كفه‏.‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الفلك‏}‏ حكاية حال ماضية‏.‏ ‏{‏وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ‏}‏ استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته، وكانوا يضحكون منه ويقولون له‏:‏ صرت نجاراً بعدما كنت نبياً‏.‏ ‏{‏قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ‏}‏ إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة‏.‏ وقيل المراد بالسخرية الاستجهال‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ يعني به إياهم وبالعذاب الغرق‏.‏ ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ‏}‏ وينزل عليه، أو يحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه‏.‏ ‏{‏عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ دائم وهو عذاب النار‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ غاية لقوله ‏{‏وَيَصْنَعُ الفلك‏}‏ وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام‏.‏ ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور، و‏{‏التنور‏}‏ تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها، أو في الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها‏.‏ ‏{‏قُلْنَا احمل فِيهَا‏}‏ في السفينة‏.‏ ‏{‏مِن كُلّ‏}‏ من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها‏.‏ ‏{‏زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ ذكراً وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى‏.‏ ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ عطف على ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ أو ‏{‏اثنين‏}‏، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏ بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين‏.‏ ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ والمؤمنين من غيرهم‏.‏ ‏{‏وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم وثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الإِنس وفي أعلاها الطير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ اركبوا فِيهَا‏}‏ أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوباً لأنها في الماء كالمركوب في الأرض‏.‏ ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ متصل ب ‏{‏اركبوا‏}‏ حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر، والمضاف محذوف كقولهم‏:‏ آتيك خفوق النجم، وانتصابهما بما قدرناه حالاً ويجوز رفعهما ب ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر، أي إجراؤها ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ على أن ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ خبر أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء‏.‏ وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست‏.‏ ويجوز أن يكون الاسم مقحماً كقوله‏:‏

ثُمَّ اسْمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا *** وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص ‏{‏مَجْرَاهَا‏}‏ بالفتح من جرى وقرئ ‏{‏مرساها‏}‏ أيضاً من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة و«مجريها ومرسيها» بلفظ الفاعل صفتين لله‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ‏}‏ متصل بمحذوف دل عليه ‏{‏اركبوا‏}‏ فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها‏.‏ ‏{‏فِى مَوْجٍ كالجبال‏}‏ في موج من الطوفان، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت، والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق‏.‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ كنعان، وقرئ «ابناها» و‏{‏ابنه‏}‏ بحذف الألف على أن الضمير لامرأته، وكان ربيبه وقيل كان لغير رشدة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَانَتَاهُمَا‏}‏ وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة في الدين، وقرئ «ابناه» على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف‏.‏ ‏{‏وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ‏}‏ عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا أبعده‏.‏ ‏{‏يابنى اركب مَّعَنَا‏}‏ في السفينة، والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء الإِضافة المحذوفة في جميع القرآن، غير ابن كثير فإنه وقف عليها في «لقمان» في الموضع الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل وعاصم فإنه فتح ها هنا اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإِضافة، واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد أدغم الباء في الميم أبو عمرو والكسائي وحفص لتقاربهما‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ في الدين والانعزال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء‏}‏ أن يغرقني ‏{‏قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ إلا الراحم وهو الله تعالى أو الإِمكان من رحمهم الله وهم المؤمنون، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة‏.‏ وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة كقوله‏:‏ ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمه الله يعصمه‏.‏ ‏{‏وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج‏}‏ بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل‏.‏ ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ فصار من المهلكين بالماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ نوديا بما ينادي به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به، تمثيلاً لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه، والبلع النشف والإِقلاع والإِمساك‏.‏ ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ نقص‏.‏ ‏{‏وَقُضِيَ الأمر‏}‏ وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين‏.‏ ‏{‏واستوت‏}‏ واستقرت السفينة‏.‏ ‏{‏عَلَى الجودى‏}‏ جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل‏.‏ روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ هلاكاً لهم يقال بعد بعداً وبعداً إذا أبعد بعداً بعيداً بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإِيجاز الخالي عن الإِخلال، وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ‏}‏ وأراد نداءه بدليل عطف قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ فإنه النداء‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق‏}‏ وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف، وقد وعدت أن تنجي أهلي فما حاله، أو فما له لم ينج، ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين‏}‏ لأنك أعلمهم وأعدلهم، أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ فإنه تعليل لنفي كونه من أهله، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة‏:‏

ترتع مَا رتعت حَتى إِذَا ادْكَّرَت *** فإِنَّمَا هي إقبالٌ وإِدْبَارٌ

ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحاً بالمناقضة بين وصفيهما وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه‏.‏ وقرأ الكسائي ويعقوب ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ أي عمل عملاً غير صالح‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك، وإنما سمي نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للانجاز في حقه، وإنما سماه جهلاً وزجر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر‏.‏ وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ‏}‏ فيما يستقبل‏.‏ ‏{‏مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ما لا علم لي بصحته‏.‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى‏}‏ وإن لم تغفر لي ما فرط مني في السؤال‏.‏ ‏{‏وَتَرْحَمْنِى‏}‏ بالتوبة والتفضل علي‏.‏ ‏{‏أَكُن مّنَ الخاسرين‏}‏ أعمالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا‏}‏ انزل من السفينة مسلماً من المكاره من جهتنا أو مسلماً عليك‏.‏ ‏{‏وبركات عَلَيْكَ‏}‏ ومباركاً عليك أو زيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً‏.‏ وقرئ ‏{‏اهبط‏}‏ بالضم «وبركة» على التوحيد وهو الخير النامي‏.‏ ‏{‏وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ وعلى أمم هم الذين معك، سموا أمماً لتحزبهم أو لتشعب الأمم منهم، أو وعلى أمم ناشئة ممن معك والمراد بهم المؤمنون لقوله‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ أي وممن معك سنمتعهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة والمراد بهم الكفار من ذرية من معه‏.‏ وقيل هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب ما نزل بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها‏:‏ ‏{‏مِنْ أَنبَاء الغيب‏}‏ أي بعضها‏.‏ ‏{‏نُوحِيهَا إِلَيْكَ‏}‏ خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك، أو حال من ال ‏{‏أَنْبَاء‏}‏ أو هو الخبر و‏{‏مِنْ أَنْبَاء‏}‏ متعلق به أو حال من الهاء في ‏{‏نُوحِيهَا‏}‏‏.‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا‏}‏ خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ جاهلاً أنت وقومك بها، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم‏.‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح‏.‏ ‏{‏إِنَّ العاقبة‏}‏ في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز‏.‏ ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ عن الشرك والمعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 56‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا‏}‏ عطف على قوله ‏{‏نُوحاً إلى قَوْمِهِ‏}‏ و‏{‏هُودًا‏}‏ عطف بيان ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله‏}‏ وحده‏.‏ ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ وقرئ بالجر حملاً على المجرور وحده‏.‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ‏}‏ على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء‏.‏

‏{‏ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى‏}‏ خاطب كل رسول به قومه إزاحة للتهمة وتمحيضاً للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ‏.‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ اطلبوا مغفرة الله بالإِيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضاً التبري من الغير إنما يكون بعد الإِيمان بالله والرغبة فيما عنده‏.‏ ‏{‏يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ كثير الدر‏.‏ ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ ويضاعف قوتكم، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات‏.‏ وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السلام على الإِيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ‏}‏ ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه‏.‏ ‏{‏مُّجْرِمِينَ‏}‏ مصرين على إجرامكم‏.‏

‏{‏قَالُواْ يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ‏}‏ بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا‏}‏ بتاركي عبادتهم‏.‏ ‏{‏عَن قَوْلِكَ‏}‏ صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ إقناط له من الإِجابة والتصديق‏.‏

‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك‏}‏ ما نقول إلا قولنا ‏{‏اعتراك‏}‏ أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه‏.‏ ‏{‏بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء‏}‏ بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ‏}‏ أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيداً لذلك وتثبيتاً له، وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاماً منه، وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله‏:‏

‏{‏إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّي وَرَبّكُمْ‏}‏ تقريراً له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده، ولا يقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله‏:‏ ‏{‏مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا‏}‏ أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ فإن تتولوا‏.‏ ‏{‏فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني ولا عذر لكم فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم ويستخلف قوماً آخرين في ديارهم وأموالهم، أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع كأنه قيل‏:‏ وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَضُرُّونَهُ‏}‏ لتوليكم‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ‏}‏ رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم، أو حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ عذابنا أو أمرنا العذاب‏.‏ ‏{‏نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ وكانوا أربعة آلاف‏.‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضاءهم، أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضاً، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَتلكَ عَادٌ‏}‏ أنث اسم الإِشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإِشارة إلى قبورهم وآثارهم‏.‏ ‏{‏جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ‏}‏ كفروا بها‏.‏ ‏{‏وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ‏}‏ لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسولاً فكأنما عصي الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول‏.‏ ‏{‏واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ يعني كبراءهم الطاغين و‏{‏عَنِيدٍ‏}‏ من عند عنداً وعنداً وعنوداً إذا طغى، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإِيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة‏}‏ أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار‏.‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ‏}‏ دعاء عليهم بالهلاك، والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكي عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم وحثاً على الاعتبار بحالهم‏.‏ ‏{‏قَوْمِ هُودٍ‏}‏ عطف بيان لعاد، وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم، والإِيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق نسله منها من التراب‏.‏ ‏{‏واستعمركم فِيهَا‏}‏ عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها، وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم‏.‏ ‏{‏فاستغفروه ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ‏}‏ قريب الرحمة‏.‏ ‏{‏مُّجِيبٌ‏}‏ لداعيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا‏}‏ لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور، أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك‏.‏ ‏{‏أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا‏}‏ على حكاية الحال الماضية‏.‏ ‏{‏وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ من التوحيد والتبري عن الأوثان‏.‏ ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موقع في الريبة من أرابه، أو ذي ريبة على الإِسناد المجازي من أراب في الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ بيان وبصيرة وحرف الشك باعتبار المخاطبين‏.‏ ‏{‏وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً‏}‏ نبوة‏.‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله‏}‏ فمن يمنعني من عذابه ‏{‏إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ في تبليغ رسالته والمنع عن الإِشراك به‏.‏ ‏{‏فَمَا تَزِيدُونَنِي‏}‏ إذن باستتباعكم إياي‏.‏ ‏{‏غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏ويا قوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإِشارة، ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها‏.‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله‏}‏ ترع نباتها وتشرب ماءها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ‏}‏ عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيراً وهو ثلاثة أيام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ‏}‏ عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا‏.‏ ‏{‏ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون‏.‏ ‏{‏ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كقوله‏:‏

وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلِيمَاً وَعَامِراً *** أو غير مكذوب على المجاز، وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقة وإلا كذبه، أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 71‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة‏.‏ وعن نافع ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي «المعارج» في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز‏}‏ القادر على كل شيء والغالب عليه‏.‏

‏{‏وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ قد سبق تفسير ذلك في سورة «الأعراف»‏.‏

‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ نَوَنَّهُ أبو بكر ها هنا وفي «النجم» والكسائي في جميع القرآن وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ‏}‏ ذهاباً إلى الحي أو الأب الأكبر‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم‏}‏ يعني الملائكة، قيل‏:‏ كانوا تسعة، وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل‏.‏ ‏{‏بالبشرى‏}‏ ببشارة الولد‏.‏ وقيل بهلاك قوم لوط‏.‏ ‏{‏قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ سلمنا عليك سلاماً ويجوز نصبه ب ‏{‏قَالُواْ‏}‏ على معنى ذكروا سلاماً‏.‏ ‏{‏قَالَ سلام‏}‏ أي أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام، رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «سلم» وكذلك في «الذاريات» وهما لغتان كحرم وحرام وقيل المراد به الصلح‏.‏ ‏{‏فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ فما أبطأ مجيئه به، أو فما أبطأ في المجيء به، أو فما تأخر عنه والجار في ‏{‏أن‏}‏ مقدر أو محذوف والحنيذ المشوي بالرضف‏.‏ وقيل الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرفته بالجلال لقوله‏:‏ ‏{‏بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ‏}‏ لا يمدون إليه أيديهم‏.‏ ‏{‏نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروهاً، ونكر وأنكر واستنكر بمعنى والإِيجاس الإِدراك وقيل الإِضمار ‏{‏قَالُواْ‏}‏ له لما أحسوا منه أثر الخوف‏.‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب، وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل‏.‏

‏{‏وامرأته قَائِمَةٌ‏}‏ وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة‏.‏ ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإِبراهيم‏:‏ اضمم إليك لوطاً فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم‏.‏ وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر‏:‏

وَعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكَاً فِي لُبَابَة *** وَلَمْ يَعْدُ حُقَاً ثَدْيُهَا أَنْ تَحَلَّمَا

ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء‏.‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره‏:‏ ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ وقيل إنه معطوف على موضع ‏{‏بإسحاق‏}‏ أو على لفظ ‏{‏إسحاق‏}‏، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ‏.‏

وخبره الظرف أي و‏{‏يَعْقُوبَ‏}‏ مولود من بعده‏.‏ وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى ‏{‏إسحاق‏}‏ ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه، بل من حيث أنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر‏.‏ والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به، وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 80‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتِي‏}‏ يا عجباً، وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع‏.‏ وقرئ بالياء على الأصل‏.‏ ‏{‏ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا‏}‏ ابنة تسعين أو تسع وتسعين‏.‏ ‏{‏وهذا بَعْلِى‏}‏ زوجي وأصله القائم بالأمر‏.‏ ‏{‏شَيْخًا‏}‏ ابن مائة أو مائة وعشرين، ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإِشارة‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر أو هو الخبر و‏{‏بَعْلِى‏}‏ بدل‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ‏}‏ يعني الولد من هرمين، وهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك‏:‏

‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت‏}‏ منكرين عليها فإِن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلاً عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، وأهل البيت نصب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم‏:‏ اللهم اغفر لنا أيتها العصابة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ حَمِيدٌ‏}‏ فاعل ما يستوجب به الحمد‏.‏ ‏{‏مَّجِيدٌ‏}‏ كثير الخير والإِحسان‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع‏}‏ أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم‏.‏ ‏{‏وَجَاءتْهُ البشرى‏}‏ بدل الورع‏.‏ ‏{‏يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ وهو إما جواب لما جيء به مضارعاً على حكاية الحال أو لأنه في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو، أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على خطابنا أو شرع في جدالنا، أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا‏.‏

‏{‏إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ‏}‏ غير عجول على الانتقام من المسيء إليه‏.‏ ‏{‏أَوَّاهٌ‏}‏ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس‏.‏ ‏{‏مُّنِيبٌ‏}‏ راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه‏.‏

‏{‏يَا إِبْرَاهِيمَ‏}‏ على إرادة القول أي قالت الملائكة ‏{‏يَا إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏.‏ ‏{‏أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ الجدال ‏{‏إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيْءَ بِهِمُ‏}‏ ساءه مجيئهم لأنهم جاؤوه في صورة غلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم‏.‏ ‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ وضاق بمكانهم صدره، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه‏.‏ ‏{‏وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ شديد من عصبه إذا شده‏.‏

‏{‏وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه‏.‏ ‏{‏وَمِن قَبْلُ‏}‏ أي ومن قبل ذلك الوقت‏.‏ ‏{‏كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يهرعون لها مجاهرين‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ فدى بهن أضيافه كرماً وحمية، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه، أو إظهاراً لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له‏.‏

وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ وهو أب لهم ‏{‏هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ أنظف فعلاً وأقل فحشاً كقولك‏:‏ الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه‏.‏ وقرئ ‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ بالنصب على الحال على أن هن خبر بناتي كقولك‏:‏ هذا أخي هو الأفضل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُخْزُونِ‏}‏ ولا تفضحوني من الخزي، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء‏.‏ ‏{‏فِى ضَيْفِى‏}‏ في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ‏}‏ من حاجة ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ وهو إتيان الذكران‏.‏

‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ لو قويت بنفسي على دفعكم‏.‏ ‏{‏أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ إلى قوي أبلغ به عنكم‏.‏ شبهه بركن الجبل في شدته‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» وقرئ ‏{‏أَوْ آوِى‏}‏ بالنصب بإضمار أن كأنه قال‏:‏ لو أن لي بكم قوة أو أوياً وجواب لو محذوف تقديره لدفعتكم روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة‏.‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ بالقطع من الإِسراء، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السرى‏.‏ ‏{‏بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏ بطائفة منه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط‏.‏ ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ‏}‏ مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحاً ولذلك علل طريقة الاستئناف بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعاً على قراءة الرفع‏.‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ كأنه علة الأمر بالإِسراء‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ‏}‏ جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ عذابنا أو أمرنا به، ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسبباً عنه بقوله‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا‏}‏ فإنه جواب لما وكان حقه‏:‏ جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة المأمورون به، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيماً للأمر فإنه روي‏:‏ ‏(‏أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم‏)‏‏.‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا‏}‏ على المدن أو على شذاذها‏.‏ ‏{‏حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ من طين متحجر لقوله‏:‏ ‏{‏حِجَارَةً مّن طِينٍ‏}‏ وأصله سنك كل فعرب‏.‏ وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى من مثل الشيء المرسل أو من مثل العطية في الإِدرار، أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً‏.‏ ‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ نضد معداً لعذابهم، أو نضد في الإِرسال بتتابع بعضه بعضاً كقطار الأمطار، أو نضد بعضه على بعض وألصق به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏مُّسَوَّمَةً‏}‏ معلمة للعذاب‏.‏ وقيل معلمة ببياض وحمرةً‏.‏ أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمى بها‏.‏ ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ في خزائنه‏.‏ ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم، وفيه وعيد لكل ظالم‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام «أنه سأل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة» وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان‏}‏ أمرهم بالتوحيد أولاً فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض‏.‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ‏}‏ بسعة تغنيكم عن البخس، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي‏.‏ ‏{‏وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ لا يشذ منه أحد منكم‏.‏ وقيل عذاب مهلك من قوله‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال، ووصف اليوم بالإِحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان‏}‏ صرح بالأمر بالإِيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإِيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها‏.‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظوراً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار، أو في غيره وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد‏.‏ وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة‏.‏ وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإِصلاح كما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏بَقِيَّتُ الله‏}‏ ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ مما تجمعون بالتطفيف‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإِيمان‏.‏ أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم‏.‏ وقيل البقية الطاعة كقوله‏:‏ ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ وقرئ «تقية» الله بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي‏.‏

‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يا شُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا‏}‏ من الأصنام، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإِشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه‏.‏ وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى‏:‏ أصلاتك تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره‏.‏ ‏{‏أَوْ أَنْ نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ‏}‏ عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا‏.‏ وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على ‏{‏أَن نَّتْرُكَ‏}‏ وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإِيفاء‏.‏ وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي‏}‏ إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة‏.‏ ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإِنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه‏.‏ وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، والضمير في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله‏.‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صواباً لآثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أن أنهى عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس، ‏{‏إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت‏}‏ ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإِصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن‏:‏ وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى، وثانيها حق النفس، وثالثها حق الناس‏.‏ وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من ‏{‏الإصلاح‏}‏ أي المقدار الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف‏.‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله‏}‏ وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل‏.‏ وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإِصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى، والاستعانة به في مجامع أمره والإِقبال عليه بشراشره، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء‏.‏